رينيه ماجريت – Rene Magritte

المقاله تحت باب  فنون عالمية
في 
25/12/2011 06:00 AM
GMT



مهما كانت الصورة التي في مخيلتك عن أي فنان مثالي والشكل الذي ترسمه له فإن ذلك لا ينطبق على ماجريت، إذ إنه يبدو كموظف حكومي في مدينة صغيرة أكثر منه فناناً. فحياته منتظمة وطباعه هادئة كما إنه يرتدي بذلة عادية ويعتمر قبعة مستديرة سوداء.

عاش معظم حياته الخالية من أية أحداث استثنائية في العاصمة البلجيكية بروكسل وتوفي في فراشه عام 1967 بعمر 68. ولم يكن أثاث منزله يضم أشياء خارج المألوف عدا القبعة والتوبة (نوع من أنواع الأبواق) التي لم يكن يجيد عزفها، واللتان ظهرتا في العديد من رسومه ووجودهما يشي بالرجل الذي كان يقطن  المنزل كواحد من أهم رسامي القرن العشرين. كانت الفسحة الصغيرة الملحقة بغرفة نومه محجوزة لحامل الرسم مع الخامة وبقية المعدات إذ لم يكن لماجريت أستوديو خاص به. كان يفضل الرسم في أوقات منتظمة مرتدياً بذلته العادية في منزله. والعجيب إنه لم يدع قطرة واحدة من الألوان تلطخ ثيابه أو أثاث منزله. كانت حياته عادية تماماً تخلو من تلك النزوات التي نجدها عادة عند أغلب الفنانين. فقد ظل مخلصاً لزوجته ربة البيت جورجيت طيلة حياته الزوجية التي دامت 45 عاماً. كان برنامجه اليومي، الذي يندر أن يخضع لأي تغيير، يبدأ بالذهاب سيراً برفقة كلبته البوميرانية "لولو" لشراء حاجيات منزله اليومية، وكان عادة ما ينتهي ذلك المشوار بمباراة شطرنج في إحدى المقاهي.
 
كان مظهره الخارجي العادي يخفي شخصية استثنائية في جوهرها، ثائراً، مخرباً لفن التجريد وبالتأكيد للفكر. فقد كانت الرسوم المضللة في لوحاته العادية مصممة لزعزعة إيماننا بحقيقة الأشياء وتدمير علاقاتنا، التي لا يرقى لها الشك، بكل ما هو مألوف وبديهي. كما إنها تعمل على تفنيد كل توقعاتنا في كل منعطف. ففي إحدى لوحاته ننظر إلى رجل من الخلف واقف أمام مرآة ونجد إن صورته المنعكسة هي أيضاً صورته من الخلف. وفي لوحة أخرى نشاهد زوجاً من الجزم وقد تحولتا إلى قدمين، ثم نشاهد في لوحة أخرى زجاج نافذة محطم لكننا نشاهد إن نفس المنظر الذي يظهر من النافذة مرسوم على شظايا زجاجة النافذة المحطمة. وهكذا لا نجد سوى الوهم، التيمة السائدة في كل لوحاته. ويبرز الفراغ بكل غموضه ورهبته في أكثر رسوم ماجريت المنذرة بالشر. ففي لوحته المسماة "الجواب غير المتوقع" نشاهد باباً مقطوعة بغير انتظام موحياً بشكل بشري وليس هناك في القطع سوى الفراغ.
ولكن ما هي الحقيقة ؟ إن كل مكونات هذه اللوحة (وكل لوحة) هو الوهم، وإن الفراغ اللامحدود ليس سوى صبغة على خامة مسطحة. وكذلك الغليون والغيوم والنوافذ والتفاح والقبعات المستديرة كلها تتساوى جميعاً، حسب ماجريت،  في كونها ليست أكثر من مجرد صبغات لونية.

كان يحلو لماجريت الإجابة على أولئك الذين يحاولون إيجاد تفسير لرسومه، بنفس الطريقة التي كان يجيب فيها ستيفان مالارميه على النفر الذي يدعي إنه توصل إلى معنى شعره، ويقول لهم ساخراً انكم أوفر حظاً مني. إن القصد من رسوم ماجريت هو الهجوم على كل التصورات والقوالب السلفية للوعي الاجتماعي. كان يعتبر عمله ناجحاً عندما يخفق الآخرون في إيجاد أي تفسير له يشبع فضولهم. والسر في فهم أعماله يكمن في عدم اللجوء إلى العلاقة الجدلية التي تربط عادة السبب بالنتيجة.

 عندما يقع أي فرد في شرك لغز صورة ما يستعصي عليه تفسيرها، تنتابه غالباً حالة من الحيرة والإرباك. هذه الحالات هي التي يعول عليها ماجريت كثيراً ويعدها حالات متميزة لأنها تحرر الفرد من إسار العادي والمألوف.

إن دراسة أعمال ماجريت تكشف لنا عن اهتماماته الفكرية والفلسفية أكثر من الاهتمامات الجمالية والفنية التي يوليها أي فنان عادة لأعماله. وتبدو رسوماته وكأنها تسعى إلى جعل التفكير عملية منظورة. وتتجلى فيها بوضوح نزعة فلسفية ملحة في  معاينة هواجسنا وقناعاتنا وتحليلها للوصول إلى صيغة مصالحة بين كافة متناقضات الوجود. كان أشد ما يزعجه هو حينما يكتشف الناس معانٍ رمزية في أعماله.

في أعوام العشرينيات من القرن الماضي كان ماجريت يبحث عن مغزى للرسم وعن أسلوب يتبناه، فكان منجذباً إلى كل من التكعيبية والمستقبلية اللتان بدا تأثيرهما واضحاً في أعماله لتلك الفترة. إذ أعادت لوحته "ثلاث نساء" التي عرضها عام    1919 إلى الأذهان أعمال بيكاسو في بداية المرحلة التكعيبية. كما جاءت أعماله المستقبلية مشفوعة بدلالات ايروسية كما في لوحة "شباب" التي تصور فتاة عارية واقفة وخلفها زورق. ويمكننا، في هذه الفترة، إجراء مقارنة بينه وبين "مارسيل دوشامب" الذي شكلت، هو الآخر، الايروسية عنصراً رئيسياً في أعماله في بداية حياته الفنية.

في عام 1925 ساهم ماجريت مع شلة من الفنانين، على رأسهم (كميل غومانز) (الذي اصبح لاحقاً مديراً لأول غاليري مكرساً للأعمال السوريالية في باريس) في إصدار كراس شهري باسم "المراسل" فأصبح هذا الحدث مؤشراً لولادة السوريالية البلجيكية.

في نفس العام قام ماجريت برسم لوحة "الفارس التائه" واعتبرها أول إنجاز له ذو دلالات كبيرة. إذ أنه يحمل مضامين تتجاوز الجانب المرئي من اللوحة. ومثلت  هذه اللوحة نقطة التحول في مسيرة ماجريت الفنية و تحديد مساره المستقبلي، كما إنها كانت بمثابة الحد الفاصل الذي مثل تخلي ماجريت عن المرحلة التقليدية لصالح مرحلة جديدة تتخطى فن الرسم إلى مدارات أوسع تسمو به إلى تخوم الشعر والموسيقى حيث ظل ماجريت وفياً لها حتى مماته.

قبل عام أو أكثر بقليل من تأريخ رسم لوحة الجوكي التائه، شاهد ماجريت لوحة "أغنية الحب" ل "جيورجو ديكيريكو" في إحدى الدوريات الفنية، فكان لها تأثيراً كبيراً عليه إذ اكتشف فيها هيمنة الشعر على فن التصوير فقد أوحت له مكونات اللوحة غير المتجانسة، من ناحية الموضوع، القفاز المطاطي إلى جانب رأس التمثال القديم، رؤية جديدة في فن التصوير متحررة كلياً عن الأفكار التقليدية لبعض الفنانين الذي اعتبرهم ماجريت مكبلين بقيود مواهبهم وببعض المعايير الجمالية.

تعد لوحة "الفارس التائه" من الأعمال الأولى التي رسمها ماجريت تحت تأثير هذا الاكتشاف، وتمثل فارساً وسط غابة من الأشجار سيقانها عبارة عن أعمدة ضخمة كتلك التي تستعمل في جوانب السلالم أو كأنها أرجل مقلوبة لمنضدة أو حتى بيادق شطرنج عملاقة. وقد هيمنت تلك الأشكال على العديد من أعمال ماجريت المبكرة التي أعقبت المرحلة التكعيبية، مثل لوحة "اللاعب الغامض" (The Secret Player) و"اللقاء" (The Encounter)  و "التمثال الطائر (The Flying Statue) و "حقوق الإنسان" (The Rights Of Man ) و "العبور الصعب" (The Difficult Crossing)، وظهرت كذلك  في بعض اعماله بملامح بشرية كما في النسخ المتعددة للوحة "العبور الصعب" التي ظهرت فيها بعين بشرية. كما أنه قام بقطعها من ورقة نوته موسيقية مستخدماً إياها في بعض أعماله في الكولاج. ليس هناك أي تفسير في استخدام تلك الأشكال أو الغرض منها وما تعنيه ولعلها تمثل حالة خاصة متأصلة في عمق اللاوعي لدى ماجريت.

إن الحديث عن  ماجريت كواحد من أهم الفنانين السورياليين يجرنا الى الحديث أولاً عن بعض المسائل السوريالية التي أسهمت في نشأة وتطور أعماله. فالمدرسة السوريالية، حسب أحد عمالقتها وروادها "ماكس أيرنست"، امتازت بأنها أعطت زخماً كبيراً للفن كي يبتعد وبخطى متسارعة عن أعمال مثل: "التفاحات الثلاث" لرينوار و "عيدان الهليون الأربعة" لمانيه و "أمرأة صغيرة من الشوكولاته" لديرين وكذلك عن علب التبغ للتكعيبييين. أما أندريه بريتون، الذي يعد من أكبر دعاتها والناطق بإسمها، فيرى أن اهم وظيفة للسوريالية هي التعامل مع النفور (الرفض) الذي يشعر به البعض ازاء أي عمل رائع. الا أن الإنجاز الحقيقي للسوريالية هو الوسيلة المبتكرة التي دحضت بها المفهوم السائد بأن الفنان يجب أن يبحث عن نماذجه في العالم الخارجي فقط. ومنذ البداية أحتضن السورياليون أفكار الفيلسوف الألماني "هيغل" التي تقول بأن محاكاة الطبيعة أو نقلها بحرفية عالية تعد عملاً غير ضرورياً ولا تمثل الوظيفة الحقيقية للفن إطلاقاً، بل إن الحقيقة يجب أن تكون نابعة عن الإدراك الحسي وإن الوظيفة الأساسية للفنان هي مزاوجة ذلك الإحساس مع  الحقائق الوجدانية الإنسانية، الأمر الذي يضمن ديمومة العمل الفني وأصالته.